الأربعاء، 30 نوفمبر 2016

سر الصندوق الحديدي

puhqwktb_400x400

الدكتور/أحمد عبد الله السومحي
عاد المغترب من بلد اغترابه بعد ما يقرب من خمس سنوات قضاها فيه هي زهرة شبابه وعنفوان عمره.. عاد صفر اليدين وخالي الوفاض اللهم إلا من دراهم قليلة لاتكاد تسد احتياجاته لمدة عام كامل في بلده، فقد ضاع أمله و تبخرحلمه في الزواج، وتكوين أسرة ، وعمل مشروع صغير يعيش منه، فقد ذهبت كل محاولاته للتوفير مع الريح في تجديد الإقامة ورخصة العمل والرسوم ورخصة قيادة السيارة ومصاريف الحج والعلاج ، وأتاوة الكفيل...الخ
عاد إلى قريته متخفيا متسللا خائفا يترقب في ليلة ظلماء تلبدت السماء بالغيوم ،وغابت فيها النجوم ،فأظلمت الأرض ، واسودت السماء ، وانهمرالمطر خفيفا وغزيرا ، وعصفت الريح عاتية ، واشتد البرد ، وصفرت الأشجار، وتمايلت فروعها ، وتراقصت أغصانها ، وسكن سكان القرية في جحورهم منذ السابعة..كانت عودته متخفيا منطقية بالنسبة إليه ، حتى لايتعرض للتهكم والسخرية والازدراء من شباب القرية الذين لم يغادروها وقد تزوج بعضهم وأنجبوا، ويعيشون حالة استقرار معيشي ونفسي على الرغم من شظف العيش وقلة الموارد...كان يشعر بالمرارة لهذه العودة المخزية ، ولكن ماذا يفعل فليس معه ما يشرف عودته ، فقد فرض عليه الزمن هذه العودة لكي يغطي خيبته ويستر عيبته
تسلل أبوزيد إلى القرية في جنح الظلام حذرا متلفتا،ووقف برهة أمام منزل باحرمل الواسع الذي كان مقابلا لبيته المتواضع ، فكم كان يمني نفسه أن يعود في يوم ما من مهجره ويبني بيتا مثله ، ويعمل بالتجارة مثل الباحرمل ، وبينما كان غارقا في لحظة حسرة ، ويهم بفتح باب داره لاحظ أنوار سيارة خافتة قادمة من شرق القرية ، وهي تسير ببطء شديد فانزوى في ركن من أركان المنازل المتلاصقة بحيث يشاهد مايجري بوضوح،فقد قدر أن يكون وراءها سر. توقفت السيارة التي لايكاد يسمع صوت محركها عند منزل التاجر الوحيد في القرية ، وخرج منها شخصان وفتحا مؤخرة السيارة فانبطح المغترب على الأرض لعله يرى مايجري فالظلام كان دامسا والبرد قارس،والمطر ينهمربشدة، وهو بفعله ذلك يغرق في مستنقع ماء المطر البارد وأخذ يرتعش لكنه تماسك فإذا بهما يخرجان شيئا من مؤخرة السيارة لم يتبينه ، ويحملانه إلى داخل المنزل . لابد أن يكون هناك سرما وراء هذه الرحلة في هذه الليلة المظلمة . أغلق الباب ..
أخذ المغترب يبحث عن طريقة لكشف سر الرحلة فهذا التاجر معروف عنه أنه يحب المال والمكسب السريع،وله مغامرات في سبيل ذلك ، ولكنه ليس مجرما حتى يقتل ويداري سوءته في منزله حتى لاتنكشف ، ولكن ما الذي حمله على الرحلة في هذا الليل البهيم؟! هل أوصله الطمع إلى أن يتاجر في المخدرات؟ ربما.! ، ولكن لا.لا. لاأعتقد ذلك فمهماغره المال فلديه بقايا من أخلاق القرية ، ونظافة يدها ، وتشدد دينها،ولكن الربح السريع يغري عند بعض الناس..جائز
اهتدى صاحبنا إلى تسلق شجرة الدوم ( السدر ) التي كان أحد فروعها يمتد إلى فوق منزل التاجر وقبل أن يصعد الشجرة فوجئ بهما يخرجان ويطوفان حول المنزل ويصعدان إلى السطح في حركة تفتيش احترازية ثم يعودان ويغلقان الباب من جديد ..تسلق الشجرة في خفة وعند ما بدأ يزحف على فرعها الممتد سقط شيء على السطح فخرجا يستطلعان ذلك بينما تسمر صاحبنا على الفرع وكأنه أحد فروع الشجرة ، وعند ما صعد أحدهما الى السطح وكشف بالمصباح اليدوي وجد(قورية) دجاجة برية ، وعند ما رأت النور طارت ووجه المصباح ناحية شجرة الدوم ، ولكنه لم يلحظ شيئا .
عادا إلى داخل المنزل و أغلقا الباب وانهمكا في عملهما بينما أخذ صاحبنا يزحف بخفة على فرع الشجرة حتى صار فوق الكوة التي في أعلى المنزل ، فتعلق برجليه بأحد فروع الشجرة، وتمسك بإحدى يديه بفرع آخر، واتكأ بالأخرى على حجر قريب من الكوة في حركة بهلوانية، وتدلى حتى رآهما يحفران في قاع المنزل وإلى جانبهما صندوق حديدي.. آلمته رجلاه وتعبت يداه ، فعاد ليستريح ، ثم بعد ما يقرب من نصف ساعة أعاد الكرة ، فإذا بهما لا زالا يحفران ، ولكن أذنه التقطت كلمة لأكبرهما سنا وهو يقول هذه ثروة تحميكم من الجوع إذا ساءت الأحوال الاقتصادية في البلد لاتفكروا في استعمالها إلا إذا أصبحتوا بلاشيء وهذا السر لايعرفه غيري وغيرك ، رد الشاب: اطمئن ياأبي
عرف المغترب شيئا من السرفانسحب من الشجرة وعاد إلى سور منزله ورغم المطر والبرد انبطح فوق السوريرقب الموقف في انتظار مغادرتهما المنزل،وأخذ يفكر في كيفية كشف السر الذي في داخل الصندوق ، والوصول إلى معرفة ما فيه .هل يكسر الباب أو يخلع الأقفال؟ واستبعد الفكرة لأنها ستحدث صوتا وربما أحس به بعض أهل القرية وطاردوه وكانت فضيحته أكبر من عودة الاغتراب .. هل يتسلق السور ويحدث ثقبا في الجدار الداخلي للمنزل سيأخذ وقتا ويحتاج إلى خفة يد وخبرة ، وخبرته في هذا المجال لا تساعده على ذلك ، وسينكشف الأمر سريعا بمشاهدة الثقب ، وأخيرا اهتدى إلى أن يحدث ثقبا حول الكُوَّة التي في وسط سطح المنزل، ويتدلى منه بحبل ثم يعيد ترميمه بسرعة بحيث لا يبدو واضحا . وبينما كان يفكر في الطريقة التي سيحصل بها على سرالصندوق خرج الرجلان من المنزل وأغلقاه ، ثم قاما بجولة تفتيشية حول المنزل وصعد أحدهما إلى السطح وفتشا الشجرة بالمصباح المحمول ثم قاما بجولة في أزقة القرية فلم يلاحظا شيئا فقد كانت القرية تغط في نوم عميق ، عندها غادرا في انسحاب بطيء الحركة ، وعندما شاهد صاحبنا مغادرتهما دخل منزله وأحضر قداحة سجائره، وحبلا متينا وطويلا وتسلق شجرة الدوم وعندما كان يهم بربط الحبل فوجئ بهما يعودان من غيرسيارة سيرا على الأقدام ، فقد أوقفا السيارة خلف الجبل وعادا ليتأكدا من أن أحدا لم يشاهدهما ، وفتحا الباب ودخل أحدهما إلى الغرفة التي دفن فيها الصندوق بينما قام الآخربالدوران حول المنزل .. وتجمد صاحبنا فوق فرع الشجرة كما تجمد الدم في عروقه خوفا من أن يعيدا تفتيش الشجرة ولكنهما لم يفعلا في هذه المرة بل جلسا ما يقرب من ساعة في مراقبة المنزل ثم غادرا ، ولما اطمأن المغترب إلى عدم عودنهما شرع في تنفيذ خطته فربط الحبل في فرع الشجرة ثم تدلى به إلى السطح وأخذ يزيل التراب المبلل بفعل المطر من حول الكوة ويقوم برفع الأحجار الصفيقة من على أعواد خشب السقف حتى أحدث ثقبا يسمح لجسمه بالمرور، ونزل إلى الغرفة ، وأشعل فانوسا كان موجودا وقد استعملاه في الحفر، ثم أزاح التراب الرطب الذي غطي به الصندوق ، وارتعب عند ما سمع صوت ارتطام في الخارج فخرج يستكشفه فتبين له أنه صوت صفيحة ألقت بها الريح ثم عاد وواصل عمله حتى أزاح التراب الجاف من على الصندوق فوجده مغلفا بالقفل فأخذ القدوم الذي حفرا به وضغط به على القفل حتى انفلت ثم فتح الصندوق ليجد به ثلالة أكياس مربوطة فتحسسها فإذا هي ورق ، ولم يشاء أن يضيع وقته في ماهيتها ونوعها فالوقت من ذهب فسحب الأكياس من الصندوق ثم أغلقه وأتى بالقفل وضغط عليه لينقفل من جديد ، وأهال عليه التراب ، وليسه بالتراب المعجون كما كان ، وأطفأ الفانوس ، وحمل الأكياس وصعد إلى السطح ثم إلى الشجرة وذهب بالأكياس إلى منزله ووضعها في غرفة مصمتة وأغلق الباب ثم عاد إلى السطح وأعاد كل شيء إلى ماكان عليه ، وقد ساعده على ذلك هطول الأمطار التي سهلت له الطين اللزج الذي جعل أن كل شيء يبدو طبيعيا ثم صعد إلى الشجرة وجنى منها مااستطاع حمله من النبق وفك حبله وحمله وعاد إلى منزله ولكن من فوق السور وترك باب الحوش مغلقا بالقفل من الخارج وعندما كوم النبق تذكر أنه في حاجة إلى الماء ولم يشاء أن يخرج ثانية فالساعة قاربت على الرابعة صباحا وخشي أن يراه أحد من أهل القرية فهم يصحون مبكرا فوضع تحت وابل المطر قدورا وطسوتا وأواني بلاستيكية فامتلأت في لحظات فقد كان المطر شديدا ، ثم أدخلها وأغلق الباب بالإقليد وسحبه حتى لا يدل على وجوده بالدخل..
كان منزل أبوزيد عبارة عن غرفتين وحوش خارجي ورثه عن جده لوالدته فوالده كان بدويا شاويا ومات وهوصغير : غرفة متصلة بالحوش وهي مستطيلة الشكل ربما كانت مساحتها 3×5 أمتار ولها كُوّة في الأعلى ونافذة صغيرة عبارة عن كوة جانبية تشرف على برحة واسعة مقابلة لمنزل التاجر الغرفة الداخلية لاتتعدى مساحتها 2×3 متر فهي مصمتة بدون نوافذ لأنها ملاصقة لمنزل آخرهجره أصحابه إلى المدينة والمنزل كله مبني من الحجارة الكلسية ماعدا أساسه فكان من حجارة الجرانيت الصلب.ومسقوف بأخشاب شجر القرض وفوقها الأحجار الكلسية ثم التراب .أما أبوابه فمصنوعة من أخشاب شجر السدر وكانت صناعتها قديمة وقوية . بعد أن أمن أبو زيد الحد الأدنى من القوت الذي يبقيه على قيد الحياة من ماء ونبق قرر أن يمكث في منزله شهرا مختفيا عن الأنظار حتى لاتثار حوله الشكوك عندما يظهر بمظهر الشخص الميسور الحال..
استلقى في الغرفة وهو يرتعش من البرد وعلى الرغم من تبديله لملابسه وتغطيه بلحاف من الشعر إلا إن الارتعاش زاد عليه وكأنها بوادر حمى أو إنفلونزا فانسحب يزحف إلى الغرفة المصمتة فهي أدفأ وخوفا من أن تعتريه نوبة عطاس وسعال وفتش في حقيبته التي قدم بها فوجد شريط (باندول) وعلبة بسكويت فالتهم البسكويت وشيعه بأفواج من حبات النبق ، وأخذ حبتين من الباندول فقد بدأ السعال والعطاس شديدا وتغطى باللحاف وراح في غيبوبة ، ولم يصح منها إلا في منتصف الليلة الثانية حين نظر في ساعته..
فلم يشعر بأصوات الجرذان ومطاردتها ، ومشاركته في النبق ، ولم يشعر بثعبان ضخم كان يطاردها ويتغذى عليها اكتشف كل ذلك عندما سمع صوت حركة واشعل القداحة وارتعب من الثعبان ولكنه قتله ، وتضايق من الحشرات فهي كثيرة وتساءل كيف قضى ليلته تلك وسط هذا الخطر وتمتم إنها عناية الله..
نهض أبو زيد نشيطا ونجا من ضربة البرد ، وأكل ما قبلته نفسه من الدوم ، وفتح الأكياس واحدا تلو الآخر وذهل من المبالغ التي بها فقد كان في الأول مليون دولارأمريكي وفي الثاني مليون درهم أماراتي وفي الثالث مليون ريال سعودي وانتابته لحظة صمت رهيبة كادت أن تؤدي به إلى الجنون ، فغاية حلمه عندما سافر هو مائة ألف ريال ، فإذا بين يديه مايقارب من ستة ملايين ، وبعد أن أفاق من وقع المفاجأة .أخذا يفكر في كيفية استثمار هذا المال دون أن يلفت إليه الأنظار واهتدى إلى أن وجود مليون ريال مع مغترب لمدة خمس سنوات أمر يبدو معقولا ومقبولا ، ولكن ماذا عن بقية المبلغ ؟ سألقي به في قعر هذه الغرفة المظلمة إلى أن تتوسع أعمالي وأكتسب غطاء ماليا واسعا عندها سأظهره..
استمر تساقط المطر لمدة أسبوع تقريبا وأهل القرى والبدو في هذه المنطقة يسمونها باسمها العربي الفصيح (ديمة ) وهو مطر يشتد أحيانا ويخف حينا آخر، وهم قد اعتادوا عليها فقد تستمر أسبوعا أوثلاثة أيام وكان أبوزيد يتسلل خلال الظلام في تلك الليالي المظلمة الممطرة ليجلب لنفسه النبق والماء حتى خزن كمية من الماء والدوم تكفيه للمدة التي قررالاختباء فيها..
بعد أسبوع أشرقت الشمس وبدأت الحياة تدب في القرية ، وبدأ يسمع أصواتا لأطفال يلعبون وكبار يتحدثون من حوله إلا أنه كان مرعوبا من هذه الأصوات..وذات يوم بينما كان يجلس في الغرفة الخارجية سمع صوتا فنظر من خلال خصائص الباب فإذا بغلام يطارد دجاجة في الحوش حتى أمسك بها ثم ألقاها خارج السور ، وأخذ يتفحص المكان فإذا بآثار أقدام وبعض حبات نبق على الأرض فقرب نحو الباب ودفعه ولكنه لم ينفتح فنظر من خصائص الباب لعله يرى شيئا بينما لصق أبوزيد بالجدار وحبس أنفاسه وعند ما ابتعد الغلام عن الباب وعلا السور سمعه يخاطب أمه ، ويقول لها فيه أحد دخل دار عمي أبوزيد ، فردت عليه من سيدخل دار عمك أبو زيد ، وهو مسافر وهي مغلقة؟ ألم تر الحوش مغلقا من الخارج ، ولكني وجدت دوما في الحوش ..يمكن أحد شبع ورماها في الحوش ويبدو أن الغلام الذكي لم يكن مقتنعا بما قالت أمه ،ولكنه وافقها ونزل من السور..
بعد ليلتين سمع أبوزيد وقع رجل في الحوش فنظر من شق الباب فرأى سوادا لم يتبينه ، ثم بعد هنيهة إذا بسواد آخر يقفز من على السور وتورمت أوداجه ، وكاد يفرق من الخوف ، فقد يكون هؤلاء لصوصا ، وقد يلجئون إلى كسر الباب ماهذا التفكيرالغبي ياأبوزيد الذي دعاك إلى هذه الحبسة المشؤومة ؟ كنت غادرت القرية ودفنت كنزك في أي حفرة ، وعشت طليقا في قريتك أو أي مكان آخر . وبينما كان يرتجف خوفا لاحظ أنهما جلسا متلاصقين جنبا إلى جنب ، فإذا بهما عاشقان وهدأ روعه وأخذا يرقبهما عندما انزاحت عن القمر بعض سحب هاربة فكان يتطعمان بعضهما وقالت الفتاة في دلال:
ـ أين الهدية التي وعدتني بها في المرة الماضية؟
ـ وتعذر لها بضيق اليد،ووعدها في المرة القادمة ألا يخيب ظنها
وعض أبوزيد على نواجذه ثم إبهامه ، وود لورمى له بربطة بعشرة آلاف ريال ليفي بوعده نحوها.. ولعن الفقر
ولكن ذلك اللقاء العشقي لم يدم إلا ساعة حيث أيقظ إحساس الطفل الذكي والده
ـ أبي..أبي.. دار عمي أبوزيد يسرق .. وحاول والده يهدئه ليعود لنومه ولكنه أصر فقام معه مرغما، وكان يلعن ويسب شقاوة ابنه ومجورة أبوزيد وأحس العاشقان بالحركة فقفز الشاب من السور وعندما لاحظه الطفل وأبوه جروا وراءه في محاولة للإمساك به ، واستغلت الفتاة مطاردتهما لعشيقها فانسلت عائدة إلى دارها ، واعترت أبوزيد نوبة ضحك كادت تفضحه عند ما عاد الرجل وابنه وقفزا إلى داخل الحوش ودفعاالباب وهزاه بعنف فإذا به متماسك قوي فعادا إلى منزلهما وعند ما أحست بهما أم الطفل تساءلت :
ـ أين كنتما؟ مالذي حدث؟
ـ سارق كان يريد أن يسرق دار أبوزيد
ـ هذا الحين أنتم مجانين أيش في دار أبوزيد للسرقة ما في دار أبوزيد إلا الفقر لوفيه رزق مااغترب كل هذه المدة
ـ نعم ، والله له أكثر من خمس سنين
ـ قل لنفسك ..تتبع الشيطان ابنك
ـ ولكنا رأينا السارق يهرب وطاردناه
ـ هذا سارق حاجة ثانية ماهو سارق دار عمك أبو زيد
وقال الأب لابنه نم ..نم..أمك أخبربالسرق منا
توقع أبوزيد أن يأتي أهل القرية في الصباح ، وخطر على باله أن يفر قبل أن ينكشف أمره ، ولكنه أحس بمايشبه الحمى في جسده فالتف في لحافه وقال لنفسه حتى لوكسروا الباب سأقول لهم عد ت مع الفجر وأن الحمى منعتني من الرد عليهم، وفي الصباح فعلا حضر أهل القرية ودخل بعضهم إلى الحوش وصعد البعض الآخر إلى السطح ، وتوقف العقلاء عند الباب ودارت مناقشات واسعة حول كسر الباب ورفض العقلاء الفكرة لأنها مسؤولية ،وطلبوا الشباب بالنزول من على السطح خوفا من انهياره خصوصا بعد الأمطار الغزيرة التي شهدتها المنطقة ، وهز بعضهم الباب هزا عنيفا وكاد يخلعه ..كل ذلك يجري وأبوزيد يرتعش تحت لحافه حمة وهلعا، وأخيرا غادر الجميع المكان ولم يبق إلا بعض الصبية يجرون على السطح محدثين ثقوبا في السقف..
خشي أبوزيد من أن يتطور عبث الأطفال من ثقوب إلى فجوات تضر بالمزل وتضر به واصتكت أسنانه من البرد وتلوى كحية أحست بالخطروشعر أنه في حاجة إلى كوب من الشاي أو القهوة الساخنة، ولكن أنى له ذلك ؟ فقد مضى عليه مايقرب من أسبوع وهو محبوس في هذه الغرفة..ما هذا التفكير السخيف يا أبو زيد الذي أوقعك في هذه الورطة الأكل دوم والشراب ماء بارد من المطر أكثر من أسبوع ولم يدخل بطنك شيئ ساخن ان استمر الحال على هذا الشكل طويلا فقد تموت قبل أن تتمتع بالملايين ..ووطن نفسه على الصبر ، واختصر المدة من شهر إلى أسبوعين ، وأخذ يفكر في كيفية الاستثمار وتراقصت أمامه الأحلام .. سيتزوج من أجمل فتاة في القرية أو القرى المجاورة ، وسيحول المبلغ إلى السعودية وسيتحول من بائع في محل إلى مستثمروسوف يوظف خبرته وعلاقته في هذا المجال ليصبح من كبار المستثمرين وربما تزوج مرة ثانية من امرأة في السعودية وحصل على الجنسية .. هذا المبلغ سينقلني نقلة كبيرة ..سوف أكون ندا لباجخجخ الذي كان يوسعني تأنيبا وشتما سوف أضع رجلا على رجل في وجهه بدلا من أن كنت أجلس مستكينا عند كرسيه ..أحلام وآمال كثيرة طافت بذهن أبي زيد وهويرتعش تحت اللحاف ..
بعد إنقضاء الأسبوع الأول سمع صوت ماطور سيارة فأشرف من النافذة الصغيرة بعين واحدة فشاهد سيارة تقف عند منزل التاجر وإذا بامرأة تسأل أخرى عن المسافرين ، وأجابتها الأخرى:
ـ محد مسافرين ؟
ـ إذن من أصحاب الموتر؟
ـ الباحرمل يدورون على أبيهم وأخيهم الكبير
ـ ليش ضاعوا؟!
ـ لا. قالوا طلعواإلى القرية ببضاعة و مارجعوا ولهم أسبوع
ـ ماهؤلاء كما الجن يأتون ويروحون ولا أحد يحس بهم ، ولا يطعم رزقهم
ـ أووه.لك عافية يا أختي..حتى لو دخلت دارهم ما يقدمون لك الماء البارد
ـ إقلعهم هم ورزقهم
ـ ومن وقف على بابهم حفن دوم ولارزقهم
ـ كل رزقهم حرام من التهريب واستغلال الناس
ـ ولاعملوا معروف في واحد من أهل قريتنا أوصلحوا شيء فيها
ارتاح أبوزيد عند سماعه رأي أهل القرية في (الباحرمل) من خلال محادثة الامرأتين ،فهم إذن يستحقون السرقة ..مع أنه كان يعلم قبل هذه المحادثة أن تكوين ثروتهم كان من طرق مشبوهة..
في نهاية الأسبوع الثاني من اختبائه استيقظ على أصوات نساء يندبن وبكاء وعويل فأرسل أذنه من خلال النافذة الصغيرة فإذا إحدى النسوة تسأل عن سبب هذا البكاء ، فإذا بالأخرى تجيبها الشيبه باحرمل وابنه الكبيروجدوهم أموات بعد الدواس سقطت بهم السيارة.. لاحول ولاقوة إلا بالله.. اللهم استرنا .. الناس تجري وراء الدنيا والموت يجري وراءهم ..لومعهم مثل هذا الجبل ما نفعهم ..
استمع أبوزيد إلى تلك المحادثة بعناية ، وخمن أن يكون سر الصندوق قدمات بموت دافنيه ؛ لهذا فعند مايظهر بمظهر المغترب الموسر ، والمتاجر في السوق فلن يشك أحد فيه ، وقررأن يظهر في منزله في صباح اليوم التالي ، وأخذا يطرح على نفسه مشاريع لتطوير القرية إذا توسعت تجارته سواء أكان ذلك في المدينة في وطنه أوفي الخارج في الإمارات والسعودية ، وأحس ببرودة واشتدت الحمى عليه ، وحاول أن ينهض ليفتح الباب ويعلن عن وجوده في المنزل فهو في حاجة إلى أكل وشراب دافئ ولكنه لم يستطع وذهب في غيبوبة لم يخرج منها ثانية إلا إلى القبر..
صعد عدة أطفال إلى سطح أبوزيد يبحثون عن كرة لهم على السطح ونظر أحدهم من الكوة إلى داخل المنزل بداعي الفضول فرأى شخصا ممددا تحت اللحاف ، فصاح السارق في منزل عمي أبوزيد وهرع أهل القرية ليتأكدوا من ذلك وصعد أحد الشباب وتأكد من وجود شخص فعلا داخل المنزل وقرع الباب مرات ومرات ولكن لامجيب عندها طلب شيخ القرية كسر الباب ، وعندما دخلوا ورفعوا اللحاف تبين لهم موت أبوزيد ، وفتشوا شنطته فوجدوا بها أمواس حلاقة وصابون وملايس قديمة وكيس شكليت هدية الأطفال ،ووجدوا في حزام حول خصره مبلغ عشرين ألف ريال سعودي ، واستغربوا لموته ..متى جاء ؟ وهل مرض ؟ أومات فجأة؟ أولدغته حية أو ثعبان ؟ واشتموا رائحة كريهة تنبعث من الغرفة الداخلية ، وارتعبوا عندما شاهدوا الثعبان ، واطمأنوا عند ما رأوا النمل عليه .لادليل على أي شيء ، لقد مات أبوزيد بسر الصندوق..